الكاتبة : نوف الجهني
المتاحف هي نوافذ على الماضي، تحمل بين جنباتها عبق الزمن وتروي قصصًا من عصور خلت، وما متاحف المدينة المنورة إلا شاهد على هذا الإرث العريق الذي يزخر بتاريخ الإسلام وحضارته الممتدة، فمع وجود المسجد النبوي كمركز روحاني للمسلمين، تأتي هذه المتاحف لتضيف بعدًا ثقافيًا آخر، ينقل الزائرين إلى حقب تاريخية مختلفة عبر مجموعة من المقتنيات الفريدة التي تحكي حكايات لم تكن لتبقى لولا هذه الجهود الفردية الحثيثة في حفظ التراث.
إن شغف جمع المقتنيات الأثرية ليس مجرد هواية بل هو مسؤولية ثقافية وحضارية، وهذا ما يتجلى في تجربة عبد المجيد الخريجي، الذي أسس متحف “الدينار والدرهم”، والذي أصبح بمثابة كنز ثمين يحتوي على مجموعة مذهلة من العملات القديمة، والمخطوطات، والمصاحف المزخرفة التي تعود إلى مئات السنين، لا يمكن للزائر إلا أن يُبهر بالتنظيم الدقيق للمتحف، حيث تمتزج العناصر التاريخية لتشكل صورة بانورامية تعكس عظمة الماضي.
ما يميز متحف الخريجي وغيره من المتاحف في المدينة المنورة هو أنها لم تنشأ ضمن إطار حكومي رسمي، بل جاءت نتيجة لجهود فردية حثيثة، تحركها رغبة أصيلة في الحفاظ على التراث ونقله للأجيال القادمة، هذه الروح الشغوفة بالتاريخ والتراث تتجلى في تفاصيل المعروضات، بدءًا من العملات النادرة التي تعود إلى العصور الإسلامية المبكرة، مرورًا بالأدوات المنزلية القديمة، وصولًا إلى المصاحف التاريخية التي تُذهلك بزخارفها ونوعية الورق المستخدم فيها.
حين تتجول في أروقة هذه المتاحف، لا يسعك إلا أن تشعر وكأنك عدت بالزمن إلى الوراء، حيث يمكنك لمس الماضي بيديك، والتأمل في تفاصيل حياة الأجداد من خلال الأدوات المنزلية التقليدية، والأسلحة التراثية، والقطع الفنية التي تحكي قصصًا غنية بالحضارة، إنها تجربة لا تتوقف عند مجرد الإعجاب، بل تمتد إلى استلهام الدروس من تاريخٍ حافل بالإنجازات، ما يجعل هذه المتاحف ليس فقط مصدرًا للمعرفة، بل أيضًا وسيلة للتواصل بين الأجيال.
لا شك أن هذه المتاحف تسد فجوة في توثيق التراث المحلي والإسلامي، لكنها تحتاج إلى دعم أكبر، سواء من الجهات الرسمية أو من المجتمع نفسه، فهذه الجهود الفردية تستحق التقدير، ولكنها أيضًا بحاجة إلى بيئة مستدامة تضمن بقاءها واستمرارها للأجيال القادمة. وربما يكون الوقت قد حان لإنشاء مشاريع مشتركة بين المهتمين بهذا المجال، سواء عبر التعاون مع المؤسسات الثقافية أو عبر مبادرات دعم من قبل الجهات المختصة.
إن زيارة متاحف المدينة المنورة ليست مجرد رحلة سياحية، بل هي رحلة عبر الزمن، تأخذ الزائر إلى عصور مختلفة، ليعيش تجربة فريدة من نوعها تتجاوز حدود المكان، وإذا كان الحنين إلى الماضي هو ما يدفع البعض لإنشاء هذه المتاحف، فإنها بالتأكيد تقدم قيمة حقيقية تتجلى في تعريف الأجيال الجديدة بتراثهم، وربطهم بجذورهم الثقافية والدينية، وهنا، يكمن جوهر هذه المتاحف وأهميتها في نسيج المجتمع، فهي ليست مجرد أماكن لعرض التحف، بل جسور تربط بين الحاضر والماضي.
من وجهة نظري، هذه المتاحف الخاصة تمثل جهدًا عظيمًا يجب أن يُحتذى به، لكنني أرى أن الاعتماد على المبادرات الفردية فقط قد يشكل تحديًا كبيرًا لاستدامة هذه المشروعات. من الضروري أن يكون هناك تدخل من الجهات المعنية، سواء من خلال تقديم الدعم المالي أو عبر تطوير بنية تحتية رسمية لدعم هذه المتاحف وحمايتها من الاندثار.
كذلك، أعتقد أن الاهتمام بتسويق هذه المتاحف رقميًا يمكن أن يعزز من إقبال السياح والزوار، حيث يمكن إنشاء منصات إلكترونية تعرض محتوى هذه المتاحف بأسلوب جذاب، مما يوسع دائرة المهتمين بها، فكما نرى اهتمامًا عالميًا متزايدًا بالتراث الثقافي، فإن تعزيز هذه المتاحف وتسليط الضوء عليها سيجعلها جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمدينة المنورة، بل وربما تكون وجهة رئيسية للزائرين الباحثين عن تجربة تاريخية فريدة.